قصة ظلُّ السكينة الكاتبة : بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية
قصة ظلُّ السكينة الكاتبة : بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية
لم أكن أبحث عن القتل كنت أبحث عن صوتٍ يوقف هذا الصدى المتكرر في رأسي.
وقفتُ على عتبة الغرفة والمسدس بين يدي لا يشبه سلاحاً بل كأنه طفلٌ يتيمٌ يبحث عن حضن
رائحة الدم لم تفاجئني كانت مألوفة مثل رطوبة البيت الذي وُلدت فيه أو مثل التراب الرطب الذي دفنت فيه أول وهم
كنت سأضغط الزناد فعلاً كنت على وشك ذلك
لكن المشهد انكسر فجأة كساعةٍ توقفت عن التكتكة في منتصف النبض
صورة ممزقة لطفلي في السادسة تطير من جرةٍ مكسورة و تمرّ أمامي كأنها تعاتبني.
ومن النافذة المكسورة رأيتُ شيئاً لم يكن من الممكن أن يُرى: قبري.. هناك في الحديقة مفتوحاَ كفمٍ يشتهي اسمي.
وقبل ساعتين كنتُ في المقبرة ولم أذهب بحثاً عن ميتٍ أعرفه بل لأنني شعرت أن الموت قد نسي أن يمرّ بي وأردت تذكيره.
هناك بين القبور ظهر عجوزٌ نحيل يحمل جرةً من ترابٍ بارد اقترب مني ثم أعطاني إياها دون أن ينظر في عيني وقال:
"هذا يُريك ما تُخفي لا ما تشتهي."
ثم اختفى تاركاً جرحاً صغيراً في كفّي وصورةً باهتة لرجلٍ يشبهني ... أكثر مما يليق بشخصٍ غريب.
تأملت الصورة طويلاً ولمحت شيئاً مألوفاً عندي :
ندبة فوق الحاجب الأيسر تلك التي حصلتُ عليها وأنا أركض هارباً من والدي حين ضرب أمي ذات مساء.
أدركت أن الرجل الذي في الصورة... هو أنا.
أو سيكون يوماً ما أنا.
كل شيء بعدها تحول سائلاً... وبعدها عدتُ إلى الغرفة التي كانت يوماً غرفة معيشة نجتمع فيها ونأكل ونتبادل الاحاديث لكنها لم تعد كذلك كانت الجدران تتنفس بثقل والظلال تتحرك دون أن تحتاج إلى أجساد والجثة التي على الأرض صارت مرآة وفيها لم أرَ الميت بل رأيتني وانا ملفوفاً بكفنٍ أبيض وسمعت دقات قلبي تنبض بالخوف لا بالندم.
ثم جاء الصوت من القبر:
"الانتقام لا يُعيد الزمن ..... يُعيدك فقط إلى الجرح الأول"
التفتُّ فوجدت نفسي واقفاً خلفي أنا لكنني أكبر سناً و متعب وأحمل جرة العجوز بإحدى يداي وساعة جيبٍ مكسورة بيد أخرى تدقُّ إلى الخلف كما لو أن الزمن تراجع عن التفاهم معنا.
حاولت أن أنطق أن أسأل أن أفهم ما يحدث
لكن الصوت الآخر قال قبلي:
"أنت الآن في منتصف الجملة التي هربتَ منها طوال حياتك."
الغرفة بدأت تنهار والتراب صعد للسقف وصار السقف رماداً.
وفي قبوٍ تحتي كنتُ صبياً بعشر سنين أختبئ خلف شاهد قبر مكسور من فوق و أسمع صراخ أبي يُهان وأسمع ضحكةً واحدةً فقط ..... لم أفهم يوماً لمن هي لكنني حملتها معي طويلاً كأنها المفتاح الوحيد لذاكرتي.
ثم جاءت تلك المرأة من البار القديم التي شربت ذات ليلةٍ كأساً لم يكن في القائمة ثم اختفت.
كانت تمشي كأن الزمن ينزلق من تحت قدميها فترمقني بنظرة كما لو إنني مرآة غير مصقولة.
رمت إليَّ ساعة الجيب المكسورة وقالت:
"هذه كانت تحبس الزمن في لحظة الموت لكنك لم تمت بعد"
ثم أردفت قولها والضوء يتلاشى:
"من يطارد ظله لا يعرف أنه هو المطارد"
فجأة سقط المسدس من يدي وشعرت بثقلٍ يسقط من صدري لا من كفي فسقطت الجرة وانشطرت إلى سحابةٍ سوداء اجتاحت السماء فوقي
وظهر العجوز مرة اخرى عند طرف المقبرة يملأ جرة جديدة بنفس التراب...... ثم... دقّت ساعةٌ ما.... واحدة فقط... كل شيء تجمّد حتى أنا... إلا ظلّي....
ظلّي وحده تحرّك زاحفاً نحو القبر المفتوح
كما لو كان يسألني من حيث لا أراه:
هل السكينة شكلٌ آخر من الانتقام؟ أم خلاص لا نستحقه؟
في تلك اللحظة، فهمت:
أنا لم آتِ هنا لأقتل بل لأُدفن لا جسداً بل كائناً كنتُ أظنه أنا......
الطفل الذي لم يُسمع له صراخ والرجل الذي عاش بألف ندمٍ دون أن يبكي مرّة.
فأغمضت عيني واستلقيت حيث كان القبر ثم فتحتها فوجدتني هناك:
في المقبرة بلا مسدس.... بلا ظل.... والعجوز يقول بهدوء:
" السكينة لا تُمنح... بل تُدفن"
عزيزي المشاهد لا تترك الموضوع بدون تعليق وتذكر ان تعليقك يدل عليك فلا تقل الا خيرا :: كلمات قليلة تساعدنا على الاستمرار في خدمتكم ادارة الموقع ... ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )