قصة الجسر للكاتبة بيداء العبيدي
قصة الجسر الكاتبة : بيداء العبيدي
لم يكن يعرف لماذا عاد الآن
المدينة التي غادرها مذعوراً قبل سنوات لم تكن قد تغيرت كثيراً.. فالشوارع نفسها والسماء نفسها والنهر نفسه والجدران المحترقة باقية على حالها. حتى رائحة البارود ما زال الهواء يتنفسها، كأن الزمن توقف عند تلك الساعات عند اللحظة التي سقط فيها أول الأصحاب.
عبر الجسر بخطى ثقيلة، مترددة، يائسة.
لم يكن جسراً في الحقيقة، بل شاهداً حجرياً ثابتاً على زمن الغدر والتبعية . كان يسمى "جسر الزيتون"، ثم غيروا اسمه إلى "جسر الشهداء" ولكن لا أحد يناديه الآن بأي اسم كأن الأسماء خجلى من أن تنطق نفسها.
توقف في منتصفه وأطل على النهر أطال النظر في ذاك الماء الجاري الذي شهد تلك الساعات.
كم جسداً مر من هنا؟
كم صرخة أُطلقت ثم تبعها الصمت؟
كم حلماً خُذل؟
كم طفل يُتِّم؟
كم مراهق حلم ولم يرَ تحقيقاً لأحلامه؟
تذكر تلك الليلة فلم تكن نار القنصلية إلا شرارة لما هو أعمق ومن يومها لم تعد المدينة تعرف النوم.
كانوا يهتفون لا من أجل وطن مثالي فقط بل من أجل وطن لا يطلق النار على أولاده.
ثم بدأ الرصاص يتراشق على تلك الفتية الصاعدة أرواحهم إلى ملكوت السماوات وما إن أغمضوا عيونهم عن هذه الدنيا حتى انفتحت جراح لا تندمل تاركين أمهات وزوجات ثكالى لا يقوين إلا على الدموع التي تكتب الذكريات وتخط صفحات الفراق وأيتام نسجوا الأحلام ليروا آباءهم يعودون في المساء ومعهم بعض الحلوى.
لم تكن معركة حقيقية كانت خديعة.
كان الصراخ يعلو إلى السماء والدماء ترسم على الأرصفة والشوارع حكايات الموت الغادر والقناصون يختارون وجوهاً شابة لم ترَ شيئاً من الحياة لكي يدونوها في لائحة الفقد بلا ندم ولا وَجَل، بلا توقف.
حين انْكَفَأ المساء كانت الأرصفة تحمل أكثر من جثة وأكثر من حلم وأقل الذكريات.
كلهم تخلوا عنهم حتى ذاك الرجل الذي وعدهم بأنه "سيصلح كل شيء"، سلم مفاتيحه ومضى كأنفاسٍ سُحبت من رئةٍ جريحة في ساعة الاحتضار لا لأن الحياة انتهت بل لأن صاحبها تخلى عن إنعاشها...
ولكنهم لم يتوقفوا......
عاد بعد كل هذا الوقت ليقف على الجسر لا ليبكي اصحابه واثارهم بل ليسمع...
كان هناك صوت خافت يتسلل من بين الماء والحجارة يقول له:
"لسنا أمواتاً... نحن صوتك حين تخاف "
أغلق عينيه... لحظات ثم رفع وجهه نحو الريح نظر بحسرة.
فالجسر عنده لم يكن مجرد ممر بل ذكريات معلقة بين ضفتين... ضفة من رحلوا وضفة من ينتظرون.
تقدم خطوة ثم أخرى كما لو أنه يعبر نحوهم لا إلى الأمام بل إلى الداخل إلى صوته حين كان حراً قبل أن يُكبت وإلى وطن لم يُولد بعد.
وحين لامست قدماه نهاية الجسر لم يكن يحمل شيئاً...
إلا تلك العبارة التي ظلت تتردد في صدره:
"ربما لم ننتصر.... ولكننا لم نكذب"
ثم مضى.
والمدينة للمرة الأولى أغمضت عينيها ونامت.
معلومات مصدر القصة
الكاتبة : بيداء العبيدي
عزيزي المشاهد لا تترك الموضوع بدون تعليق وتذكر ان تعليقك يدل عليك فلا تقل الا خيرا :: كلمات قليلة تساعدنا على الاستمرار في خدمتكم ادارة الموقع ... ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )