📁 مشاركات منوعه

قصة ذاكرة المطر وبصيرة الثلاثين الكاتبة بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية

قصة ذاكرة المطر وبصيرة الثلاثين الكاتبة بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية

قصة ذاكرة المطر وبصيرة الثلاثين الكاتبة : بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية

قصة ذاكرة المطر وبصيرة الثلاثين الكاتبة بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية

كانَ يومٌ جميلٌ مليءٌ بالسعادةِ والفرحِ، كانتِ الأطيارُ تُغَنِّي وتعزفُ ألحانَها.
كانَ يومِي الدِّراسيُّ الأوَّلُ وكنتُ ذاهبةً إلى المدرسةِ بحماسِ البداياتِ ولا خوفَ بقلبي ودَّعتُ أمِّي وخرجتُ مُسرعةً إلى مدرستي فرحةً تغمرُني مشاعرُ جديدةٌ لا أعرفُ ما هي كلُّ الذي كنتُ أعرفُهُ أنني سعيدةٌ وأخيراً التحقتُ بركب أخي في المدرسةِ.
وما إنْ وصلتُ ودخلتُ صفِّي إلا وسمعتُ صوتَ الرَّعدِ يدوي وضوءَ البرقِ الذي يخطفُ الأبصارَ كأنَّهُ انفجارٌ كونيٌّ أو غضبٌ ربَّانيٌّ.
كانَ ذلكَ في شهرِ أيلولَ وكانتْ تُقامُ في هذا الشهرِ المناحةُ على الإلهِ تموزَ.
نعمْ.... هذا ما تقولُهُ الأسطورةُ البابليةُ فتبكيهِ عشتارُ وتنوحُ عليهِ لأنَّهُ غارَ إلى الأرضِ وفقدتِ الأرضُ خصبَها وذبلتِ النباتاتُ.
كلُّ هذا جالَ في خاطري إلى أنْ فجأةً.. ودونَ سابقِ إنذارٍ.. انفتحتْ أبوابُ السماءِ.
قطراتٌ ثقيلةٌ كالرَّصاصِ بدأتْ تسقطُ على الأرضِ الجافةِ تحوَّلَ ضحكُ الطلابِ إلى صراخٍ حينَ أغرقَ الماءُ شوارعَ المدينةِ في دقائقَ.
تسائلت "كلُّ هذا لِمَاذا؟ جاءَ المطرُ بغيرِ أوانِهِ! ما الحكمةُ من ذلكَ" 
فجأةً هدَأَ الجوُّ وأشرقتِ الشمسُ بنورِها من جديدٍ.
كأنَّ الأرضَ استغاثتْ للسماءِ فنزلَ غيثاً يُحييها.
ما أكرمَكَ يا ربُّ! فتلكَ القطراتُ الثقيلةُ لم تكنْ مجردَ مطرٍ يهطلُ من السماءِ، بل كانتْ كإشاراتِ وعيٍ تضربُ أرضَ طفولتي البريئةِ.
نظرتُ إلى وجوهِ زملائي الخائفةِ والباكيةِ والمرتعبةِ، ثمَّ أدرتُ وجهي إلى معلمتِنا التي حاولتْ دونَ جدوى تهدئتَنا، لم أفهمْ في وقتِها لماذا تحوَّلَ هذا الصباحُ الجميلُ إلى خوفٍ ورعبٍ من تلكَ الأصواتِ السماويةِ.. لكنْ..
"لماذا الآن؟" تساءلتُ في داخلي، "لماذا يَمْحُو هذا المطرُ فرحتَنا؟ كُنَّا سعداءَ في يومِنا الأوَّلِ؟"
فجأةً هدَأَ الجوُّ سريعاً كما بدأَ، والشمسُ أشرقتْ وكأنَّ شيئاً لم يكنْ، لكنَّ شيئاً ما بداخلي قد تغيَّرَ، تلاشى ذلكَ الشعورُ الجميلُ المحمَّلُ بالفرحِ المطلقِ، وحلَّ مكانَهُ ترقُّبٌ وحذرٌ وخوفٌ وإحساسٌ مُخيفٌ بأنَّ الحياةَ ليستْ دائماً بالصفاءِ الذي نتوقَّعُهُ.
"كأنَّها درسٌ تمهيديٌّ للحياةِ، كأنَّها مقدمةٌ للخيباتِ"، همستُ لنفسي وأنا أُراقبُ الماءَ المتجمِّعَ في هذهِ البِرَكِ التي تعكسُ السماءَ الزرقاءَ، "إنَّ هذا ليسَ إلا تذكيراً بأنَّ كلَّ شيءٍ في هذا الكونِ يمكنُ أنْ يتغيَّرَ في لحظةٍ بقدرةِ اللهِ وعظمتِهِ".
مرَّتِ السنونُ وتوالتِ الدروسُ والخيباتُ، بعضُها واضحٌ ومباشرٌ، وبعضُها غائرٌ تحتَ سطورِ الأيامِ، تخرَّجتُ وعملتُ وأحببتُ وفقدتُ، كلُّ هذهِ الأمورِ واجهتُها... واجهتُ أفراحاً جعلتْ قلبي يرقصُ فرحاً كفراشاتِ الربيعِ، وخيباتٍ مؤلمةً أودتْ بقطعِ نياطِ قلبي وجعاً، وفي كلِّ مرةٍ كانتِ الحياةُ تُفاجئُني بتقلباتِها ومزاجِها، فالحياةُ كبحرٍ مضطربٍ أو كدولابٍ يدورُ، يوماً يرفعُ ويوماً يخفضُ، فكأنَّ شبحَ ذلكَ المطرِ القديمِ يعودُ ليُذكِّرَني بشيءٍ لم أستطعْ فهمَهُ تماماً في حينِهِ.
قلتُ في نفسي: "لماذا لم أنتبهْ؟" كثيراً ما كنتُ أسألُ نفسي في لحظاتِ الوجعِ والألمِ: "هل تلكَ إشارةٌ مبكرةٌ لي عمَّا تُخبِّئُ لي الحياةُ؟ أم ذلكَ الدَّرسُ الأوَّلُ الذي قدَّمتْهُ لي السماءُ في يومِ فرحي وبهجتي فأطفأتْ كلَّ مزاجي ولهفي ليومي الأوَّلِ؟"
الآنَ... وأنا في منتصفِ الثلاثينياتِ من عمري، أقفُ هنا تحتَ هذا المطرِ الذي هطلَ أيضاً في غيرِ أوانِهِ، قطراتُهُ الباردةُ تُلامسُ وجهي تماماً كما فعلتْ تلكَ القطراتُ الأولى قبلَ سنواتٍ طويلةٍ، لكنَّ هذهِ المرةَ هناكَ فهمٌ أعمقُ يتسرَّبُ إلى روحي مع كلِّ قطرةٍ.
"يا لهُ من تشابهٍ غريبٍ!"
أقولُ بصوتٍ خافتٍ والريحُ تحملُ كلماتِي بعيداً...
"مرةً أخرى يأتي المطرُ في غيرِ أوانِهِ المتوقَّعِ".
أتذكَّرُ ذلكَ اليومَ الأوَّلَ، فرحةَ البداياتِ البريئةِ والخوفَ الخفيَّ الذي تلبَّسَ روحي من صوتِ الرَّعدِ...
أدركتُ الآنَ أنَّ الحياةَ غالباً ما تُقدِّمُ لنا دروسَها الأولى في لحظاتِ الفرحِ ممزوجةً بشيءٍ من الإنذارِ والتنبيهِ، وشيءٌ يُشيرُ إلى أنَّ كلَّ شيءٍ قابلٌ للتغييرِ والتجديدِ، ولا يوجدُ شيءٌ في هذا الكونِ يبقى على حالِهِ، وأنَّ السعادةَ المطلقةَ قد يعقبُها تحدٍّ غيرُ متوقَّعٍ وخيباتٌ موجعةٌ...
"كنتِ تُعطينني أوَّلَ دروسِ المرونةِ والتقبُّلِ يا حياةُ"،
أهمسُ بيني وبينَ نفسي وأنا أرفعُ وجهي نحو السماءِ الرماديةِ المليئةِ بالغيومِ،
"هذا درسٌ عن تقبُّلِ التقلباتِ، عن أنَّ الفرحَ لا يدومُ وأنَّ الحزنَ لا يستمرُّ".
لكنَّني لم أعملْ بهذا الدرسِ جيداً في حينِهِ.. لم أفهمْ رسالةَ السماءِ، كنتُ لا أملكُ هذا الوعيَ، تشبَّثتُ بالثباتِ وتجاهلتُ الغيومَ التي غزتْ سمائي الشخصيةَ، وبقيتُ أُحاولُ أنْ أُقاومَ التغييرَ وتمسَّكتُ بما ألفتهُ خشيةً من أنْ يُفسدَ المطرُ فرحي، وهذا كانَ جُلَّ همِّي.
وهذهِ المقاومةُ وهذا التشبُّثُ هو ما كلَّفني الكثيرَ الكثيرَ من حياتي وتعبي...
همستُ: "لو إنَّني فهمتُ حينَها"، أقولُ والندمُ يلسعُ قلبي برفقٍ،
"لو إنَّني استقبلتُ تلكَ القطراتِ الأولى كتحذيرٍ حكيمٍ، ربما كنتُ أكثرَ استعداداً لعواصفِ الحياةِ اللاحقةِ...."
المطرُ ينهمرُ الآنَ بغزارةٍ، يغسلُ شوارعَ المدينةِ كما غسلَ ساحةَ مدرستي الصغيرةِ قبلَ عقدينِ من الزمنِ......
أقفُ هنا امرأةً ثلاثينيةً بكاملِ نضجي، تحتَ مطرٍ مفاجئٍ، وأستعيدُ ذكرى طفلةٍ كانتْ تقفُ مذهولةً تحتَ مطرٍ مماثلٍ......
"شكراً لكَ يا ربُّ"، وأُكرِّرُها،
"شكراً لكَ يا ربُّ"، أهمسُ بصدقٍ هذهِ المرةَ..
"حتى وإنْ تأخَّرَ الفهمُ، فإنَّ دروسَكَ تصلُ دائماً، ربما هذا المطرُ الآنَ هو فرصةٌ أخرى وصفحةٌ جديدةٌ لأتعلَّمَ الدرسَ جيداً هذهِ المرةَ".
أغمضتُ عيني وأنا أشعرُ بقطراتِ المطرِ تُزيلُ عنِّي غشاوةَ السنين وتغسلُ غبارَ الماضي وتمنحُني شعوراً خفيفاً بالسلامِ.....
ربما لم يفتِ الأوانُ بعدُ لفهمِ ذلكَ الدرسِ الأوَّلِ... "الدنيا يومٌ لكَ ويومٌ عليكَ"، هذهِ الحكمةُ التي فهمتُها متأخرةً، ثم تذكَّرتُ هذهِ الحكمةَ: "لا تفرحْ بالرخاءِ، ولا تيأسْ من الشدةِ، فكلاهما زائلٌ".
معلومات مصدر القصة 
الكاتبة : بيداء جاسم محمد ماجستير لغة عربية

تعليقات