قصة لُجين بقلم محمد طه من السودان
قصة لُجين بقلم محمد طه من السودان
في مدينة كبيرة تضجّ بالحياة، حيث تعانق ناطحات السحاب الغيوم، عاشت فتاة تُدعى لُجين في الثالثة عشرة من عمرها، في بيت كبير تحيط به الأشجار وتغنيه الطيور بألحانها كل صباح. كان البيت كأنه جنة صغيرة تعيش فيها البطّات، والأوزات، والدجاج، وأشهرهم ديك مشاكس لا يملّ من مغامراته اليومية.
لُجين كانت تستيقظ باكرًا، تُنشد للحيوانات، وتطعمها وهي تضحك من تصرفاتها الغريبة. وفي ذات صباح، بينما كانت تتجول كعادتها بين الزهور، دوّى صوت صاخب تبعه صمتٌ مفاجئ. التفتت فإذا بالديك المشاكس يركض خلف فراشة مضيئة، أجنحتها تشعّ كأنها قطعة قمر. همّ باصطيادها، ولكن لُجين هتفت بقوة:
"توقّف! دعها!"
فجفل الديك وتراجع، أما الفراشة فسقطت بين الأعشاب، مرتجفة وصامتة. اقتربت لُجين منها برفق، ومدّت يدها لتحتضنها، وهمست:
"لا تقلقي... أنت بأمان."
وهنا حدث ما لم تتوقعه…
أضاءت الفراشة ضوءًا أكثر سطوعًا، وانبعث منها صوت رقيق كنسيم الفجر:
"شكرًا يا لُجين. أنا اسمي لينا، من فراشات النور التي لا تُرى إلا لذوي القلوب الرحيمة. لقد أنقذتِني، وسأكافئك كما يليق بنبلك."
شهقت لُجين بدهشة وابتسمت: "أنتِ... تتكلمين؟"
فردت الفراشة: "نعم، ولكن فقط القلوب الطيبة تسمع صوتنا."
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت لُجين تعتني بلينا كأنها كنز ثمين. صنعت لها بيتًا صغيرًا من عيدان القش والزهور، وأحضرت لها قطرات من رحيق الأزهار كل صباح. كل مساء، كانت تقصّ عليها القصص، بينما كانت لينا تُنير جدران الغرفة بنورها، مرسلةً أحلامًا جميلة ولحظات سحرية.
وذات ليلة، أهدت لينا لصديقتها عقدًا صغيرًا فيه نقطة ضوء لا تنطفئ، وقالت:
"هذا نور قلبك. سيضيء لك الطريق عندما تتوهين، ويُذَكّرك بأنّ العالم مليء بالأرواح الطيبة، مثلك."
كبرت لُجين، ورافقتها الفراشة بلينا في قلبها، ترى من خلالها تفاصيل الحياة التي لا يراها سواها. ✨🦋
استيقظت لُجين في أحد الأيام لتجد أن الفراشة لينا لم تعد ترفرف فوق زهور الحديقة كعادتها. بحثت في كل الزوايا، نادت عليها بصوتٍ يملؤه القلق... لكن لا أثر.
فجأة، سطع نور صغير من العقد الذي أهدته لينا لها، وتحول إلى شعاعٍ أرشدها نحو شجرة قديمة في أطراف الحديقة. هناك، عند جذع الشجرة، وجدت بابًا خشبيًّا صغيرًا لم تره من قبل، محفور عليه نقش:
"لا يُفتح إلا لقلب نقي ونور لا يخبو."
وضعت لجين يدها على الباب، وتوهّج العقد. فُتح الباب بهدوء، وإذا بها تُسحب إلى عالم سحري، تتناثر فيه الفراشات المضيئة كالنجوم، وتغني أوراق الأشجار عندما تهب الريح.
ظهرت لينا وهي ترفرف بسعادة وقالت:
"مرحبًا بك في وادي النور، حيث نرعى أحلام البشر وننقّي قلوبهم. لكن شيئًا خطيرًا يهدد واحتنا: الظلال الزاحفة بدأت في إطفاء نورنا، ونحتاج مساعدتك يا لُجين."
ابتسمت لينا للفراشات اللواتي تجمعن حول لُجين كأنهن يعرفنها منذ زمن، وقالت لها بصوت ناعم:
"لتنجحي في حماية وادي النور، يجب أن تعيدي إشعال ثلاثة أنوار انطفأت: نور الشجاعة، ونور الحكمة، ونور الرحمة. كل منها محفوظ في مكان بعيد، ويخضع لاختبار لا ينجح فيه سوى من يملك قلبًا نقيًا مثلك."
أمسكت لجين بالعقد الذي أهدته لها لينا، فشع نوره إلى السماء ليقودها نحو الغابة الصامتة، حيث يسكن أول اختبار: نور الشجاعة. كانت الأشجار هناك طويلة ومتشابكة، والصمت يُخيّم إلا من همسات خفيفة أشبه بأنفاس الريح.
فجأة، خرجت من بين الأشجار كائنات الظلال، تحاول تخويفها بصور مرعبة وأصوات مزعجة. لكن لُجين تذكرت كلمات لينا، ووضعت يدها على العقد وهمست:
"أنا لا أخاف، لأن قلبي مليء بالحب."
وهنا، انبعث نور ساطع من العقد، فبدّدت أشعة النور كائنات الظلال، وظهر أمامها مصباح صغير يحوي نور الشجاعة. التقطته، وسمعت الأشجار تهمس:
"نجحتِ يا لُجين... النور الأول عاد للحياة."
عاد إليها طيف لينا ليقول بابتسامة فخورة:
"هكذا يبدأ الأبطال. هل أنتِ مستعدة للذهاب إلى برج الرياح، حيث يقيم اختبار الحكمة؟"
ابتسمت لُجين وقالت بثقة:
"أنا مستعدة، لينا. فلنذهب إلى برج الرياح!"
قادت لينا صديقتها عبر ممرٍ من سُحبٍ معلقة في السماء، حتى وصلت إلى برجٍ عالٍ يلامس النجوم، يحيط به هواء دافئ يهمس بالأسرار. صعدت لُجين الدرجات الحجرية ببطء، وكل خطوة كانت تحملها إلى الأعلى، حيث ينتظر اختبار الحكمة.
عند قمة البرج، وجدت ثلاث أبواب، وفوق كل باب نقش غامض. ظهرت فراشة حكيمة ذات أجنحة شفافة تُدعى ميرالا وقالت:
"وراء بابٍ واحد فقط يكمن نور الحكمة. الباب الصحيح لا يُفتَح بالقوة ولا بالحدس، بل بالإجابة الصحيحة على هذا اللغز:
'أنا شيء يكبر كلما أخذت منه، فمن أكون؟'"
فكرت لُجين… وعادت إلى ذاتها، ثم ابتسمت وقالت:
"إنها الحُفرة!"
انفتح الباب الأوسط تلقائيًّا، وتلألأ نور الحكمة كأنه شمسٌ صغيرة، وقالت ميرالا:
"أحسنتِ، يا من تنصتين لصوت المنطق والنقاء. خذي هذا النور، فهو دليلك في العتمة."
أخذت لُجين النور الثاني، وعاد العقد يتوهّج أكثر، وكأنّه يُخبرها بأنها تقترب من تحقيق الوعد العظيم.
عادت لينا إلى جانبها، وقالت لها:
"لم يتبقَّ سوى نور الرحمة... لكنه الأصعب، لأن الرحمة لا تُختبَر بالكلمات، بل بالاختيار."
وفي فجر اليوم التالي، انطلقت لُجين إلى وادي الضباب، آخر محطات رحلتها. كان كل شيء هناك مغطّى بسُحب ناعمة، والجوّ هادئ كأنّ الزمن توقف. وفي قلب الوادي، وُضعت أمامها مشهدان: أحدهما لطفلٍ يبكي بردًا وجوعًا، والثاني لطائرٍ صغير مكسور الجناح عاجز عن الطيران.
ظهرت لينا وقالت:
"لا يمكنك إنقاذ الاثنين في آنٍ واحد. اختاري من ستساعدين، والآخر سيبقى وحده. تذكّري، الرحمة ليست في الاختيار، بل في النية والقلب."
جلست لُجين قليلاً تفكر، ثم خلعت معطفها ولفّت به الطفل ليشعر بالدفء، ثم حملت الطائر بين يديها وقالت بهدوء:
"لن أترك أحدًا. سأحمل الطائر معي، وسنمشي معًا حيث يأمن الطفل."
وفجأة، انقشع الضباب وتحوّل الوادي إلى حقلٍ من النور، وظهرت شعلة صغيرة تُشعّ بنور الرحمة. اقتربت لُجين، وأخذتها بقلبٍ عامر بالحب واللطف.
عادت لينا تطير بسعادة، وقالت:
"لقد أعدتِ التوازن لعالمنا. النور اكتمل، وقلبي امتلأ فخرًا بك."
أُعيد بناء بوابة العالم السحري، واصطفّت الفراشات المضيئة لتحيي لُجين، التي لم تعُد فقط فتاة عادية، بل أصبحت حارسة أنوار القلوب. حملت الأضواء الثلاثة داخل عقدها، لتظلّ تضيء دروب الآخرين كما فعلت في عالم النور.
معلومات مصدر القصة
الكاتب : قصة بقلم محمد طه من السودان هدية لابنته لجين بمناسبة عيد ميلادها فكل عام وهي وهو بالف خير
عزيزي المشاهد لا تترك الموضوع بدون تعليق وتذكر ان تعليقك يدل عليك فلا تقل الا خيرا :: كلمات قليلة تساعدنا على الاستمرار في خدمتكم ادارة الموقع ... ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )